من نافلة القول إنّ الإعلام في زمن العولمة يلعب دوراً هاماً جداً في صناعة الرأي العام، وما من شك بأنّه في عهد الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تحوّل العالم إلى قرية صغيرة.
ولكن على الرغم من هذه الطفرة الإعلامية، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية -رأس حربة الإمبريالية العالمية- وعلى خلفية فشل سياساتها في الشرق الأوسط تحديداً، تحّولت إلى شرطي العالم، وبات الكونغرس الأميركي يسن القوانين التي تهدف إلى ترويض وتدجين الإعلام العربي, مثل مشروع القرار الأخير الذي يتوعد الفضائيات العربية ومؤسسات الأقمار الإصطناعية التي تبثها، التي تعتبرها واشنطن معاديةٍ لها بإنزال أشد العقوبات بها لأنّها تدعم المقاومة.
السؤال منذ متى يُسمح لدولة بسن قوانين تُلزم دولاً أخرى؟ وهل مقاومة الاحتلال غير الشرعي، والتي نصت عليها الشرعية الدولية باتت إرهاباً إسلامياً وعربياً؟ ولكن باعتقادنا هناك تقاطع مصالح، إن لم يكن أكثر، بين الأنظمة العربية المرتمية في أحضان واشنطن وبين الإدارة الأميركية في هذه القضية، فوزراء الإعلام العرب، وهم موظفون في أنظمة العذاب والتعذيب، يريدون من وراء هذه القوانين قمع نهج المقاومة من عقول وأذهان أبناء الأمتين العربيّة والإسلامية، لأنّ من يقاوم المحتل لتحرير أرضه وعرضه، سيثور عاجلاً أم أجلاً، ضدّ من يتحالف مع الاحتلال وزبانيته
ولا غضاضة بتذكير الأميركيين والغرب الذي يعتبر نفسه متنوراً وينظر إلى الشرق العربي والإسلامي نظرة ازدراء واحتقار، معتبراً إياه متخلفاًُ، بأنّ الإساءة إلى الإسلام وللرسول العربي الكريم باتت رياضة وطنية في بلادهم، ويسمحون بها متذرعين، زوراً وبهتاناً بالحق في التعبير عن الرأي.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر، القس الأميركي بات روبرتسون، أساء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكر وجود ديانة إسلامية، وما زال ينفث سمومه البذيئة من على شاشة التلفزيون التابع له، والإذاعة التي يمتلكها، والفرق واضح بين التيارين: الفضائيات العربية، ملزمة بتغطية أنباء المقاومة في كل مكان وزمان، وهي بذلك لا ترتكب خطيئة، ولا تنكر وجود دين سماوي، كما يفعل العديد من القساوسة الأميركيين والأوروبيين، عندما يتعدوا على الدين الإسلامي الحنيف ويقولون بدون خجلًٍ أو وجلٍ بأنّه نسخة عن الدين اليهودي.
قانون الكونغرس المذكور هو وصمة عار في جبين إدارة أوباما، الذي أشبعنا بالوعود الرنانة، ولكنّه لم يجرؤ على إغلاق معتقل غوانتانامو، الذي تجري فيه أعمال تقشعر لها الأبدان ضدّ المسلمين وضدّ القرآن الكريم، لا يحتملها الورق من شدةٍ فظاعتها، ولا غضاضة في هذا السياق تذكير الغرب والعرب بمقولة سيدنا عمر بن الخطاب الشهيرة التي لم يمحها الزمن أبدا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وهذه المقولة تنسحب على المقاومة وعلى الإعلام الذي يغطي المقاومة.
والشيء بالشيء يذكر: مراقب الدولة العبرية، القاضي ميخا ليندنشتراوس، قال في تقريره الذي نُشر في كانون الثاني (يناير) الجاري إنّ فضائية الجزيرة القطرية وفضائية المنار، التابعة لحزب الله اللبناني، تفوقتا على الإعلام الإسرائيلي الموجه للعرب، وأنّ الرواية الإسرائيلية حول أحداث غزة فشلت فشلاً ذريعاً، مقترحاً على صنّاع القرار في تل أبيب مواجهة هاتين الفضائيتين، اللتين وفق الاستطلاعات الرسمية، هما الأكثر مشاهدة في فلسطين التاريخية.
دولة الاحتلال تواصل التصرف في مواجهتها مع العرب على الصعيد الإعلامي وكأنّ شيئاً لم يكن: هل تحتل الدولة العبرية الأراضي العربية؟ الجواب لا. هكذا قرر مدير صوت إسرائيل بالعربية، وهو بالمناسبة يهودي، فمنذ تأسيس الراديو "العربي" كان المدير العام دائماً من اليهود، وما زال هذا الوضع قائماً حتى اليوم، وجاء ذلك في وثيقة داخلية عممها على العاملين في هذه الإذاعة التحريضية.
اليهود عندما يقتلون في عملية مسلحة، أكد المدير العام في فرمانه، فإنّهم ضحايا، أما الفلسطينيون فهم قتلي، الجندي الإسرائيلي الذي يقتل ويبطش بالفلسطينيين واللبنانيين هو من جيش الدفاع الإسرائيلي، الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، كما يتشدق صنّاع القرار من المستويين الأمني والسياسي في تل أبيب، أما الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه وعرضه ويقاوم الاحتلال بشتى الوسائل المتاحة له، والتي نصت عليها الشرعية الدولية، فإنّه إرهابي ولعين.
وعلى المذيعين في هذه الإذاعة العمل وفق هذه التعليمات المكارثية، وإلا فإنّ الإدارة ستقوم بفصلهم من العمل، صحافة في القمة، قمة في الصحافة، أو بكلمات أخرى، الديموكتاتورية على النمط الإسرائيلي.
في الحقيقة لم نفاجأ بهذا الفرمان من مدير صوت إسرائيل الناطق بالعربية. ونتوقع أن ينضم تلفزيون إسرائيل اللافظ بالعربية إلى جوقة التحريض الأرعن على كل ما ينطق بالضاد، وعلى كل من هو مسلم. وللتدليل على ما نسوقه في هذه العجّالة نورد مثالاً: قبل أكثر من ثلاث سنوات ونيّف أجريت لقاءً مطولاً مع سعيد القاسم، الذي كان المذيع الرئيسي في تلفزيون إسرائيل علي مدار ثلاثين عاما. حيث قال فيما قال: إنّ التلفزيون بالعربية والراديو بالعربية هما صهاينة أكثر من هرتزل، وكاثوليك أكثر من البابا.
وللتذكير فإنّه في العام 1968 قامت حكومة إسرائيل بتعيين لجنة مهمتها فحص إمكانية إقامة راديو وتلفزيون بالعربية لاستغلالهما في حرب الدعاية الصهيونية ضد العالم العربي بشكل عام، وضد سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة (المناطق المحتلة عام 67)، وبطبيعة الحال فلسطينيي الداخل، ضمن المخطط الصهيوني الخبيث الرامي إلى ترويضهم وتدجينهم وتحويلهم إلى ما يُسمى وفق الأجندة الصهيونية بالعرب الجيدين.
وقد ضمت اللجنة مندوبين عن جهاز الأمن العام (الشاباك) وبعد مداولات مستفيضة، لم تخل من نصب المكائد وتحديد الإستراتيجية، رفعت توصياتها إلى الحكومة الإسرائيلية مشددةً على ضرورة إقامة الراديو، والتلفزيون ليكونا ذراعاً مطيعاً تستغله الحكومة من أجل خلق البلبلة في العالم العربي، وإثارة الفتن بين أبناء الشعب العربي الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 67 وأيضا في مناطق الـ48.
الموظفون الذين اختيروا للعمل في وسيلتي الإعلام الإسرائيليتين حتى النخاع، كانوا من اليهود الذين قدموا إلى فلسطين بعد نكبة العام 48، وهم يشكلون في هذه الأيام 90% من عدد الموظفين، يتكلمون العربية التي درسوها في المؤسسات الأمنية المختلفة، ويتقنون مهمة التحريض على أحسن وجه، وهم بعيدون عن الصحافة ألف سنة ضوئية.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر، قامت دار الإذاعة الإسرائيلية خلال اجتياح لبنان في العام 1982 بمهمة أمنية من الدرجة الأولى، المذيعون أجبروا على ترديد النداء إلى المقاتلين الفلسطينيين ومطالبتهم بالاستسلام: أيها المخرب، قف وفكر. ارفع العلم الأبيض واستسلم، هذا النداء الذي كررته الإذاعة العربية لم يجد نفعاً، فقد واصل الفدائيون الفلسطينيون في الدفاع عن أنفسهم، وفي محاولاتهم البطولية لصد العدوان الإسرائيلي البربري على الرغم من عدم التكافؤ في القوة، وما زالت عملية التحريض المنهجية مستمرة.
هذا النهج الصهيوني الاستعلائي دفع المواطنين العرب الفلسطينيين، الذين يعيشون داخل الخط الأخضر إلى العزوف عن الاستماع لراديو إسرائيل بالعربية والعزوف عن مشاهدة تلفزيون إسرائيل بالعربية (على فكرة هذا التلفزيون يخصص ساعة واحدة يومية بالعربية فقط، نصف ساعة منها مخصصة لنشرة الأخبار من أورشليم ـ القدس).
المأساة تكمن في أنّ القانون الإسرائيلي يُلزم كل مواطن من اليهود والعرب، بدفع ضريبة لهيئة الإذاعة والتلفزيون، ومن لا يدفع الضريبة، فإن السلطات تتخذ ضده الإجراءات القانونية المختلفة، بما في ذلك الحجز على راتبه.
بمعنى آخر فإن الفلسطينيين، الذين يسكنون في إسرائيل ملزمون حسب القانون بتمويل الراديو والتلفزيون، أو بكلمات أكثر سذاجة: نحن ندفع الضريبة السنوية لكي نمكنهم من التحريض علينا وعلى أبناء جلدتنا في جميع الأماكن.
مضافاً إلى ذلك، نرى لزاماً على أنفسنا أن نوضح لكل من في رأسه عينان بأنّ العنصرية الإسرائيلية سبقت نفسها في جميع مناحي الحياة، ففي البرامج الأجنبية التي يقوم ببثها التلفزيون الرسمي الإسرائيلي، الممّول من دافعي الضرائب ومن الحكومة، وبطبيعة الحال القنوات التلفزيونية التجارية، بترجمة البرامج إلى اللغتين العبرية والروسية، هذا على الرغم من أنّ اللغة العربية، وفق القانون الإسرائيلي، هي لغة رسمية، ومع أنّ حوالي 20% من سكان الدولة العبرية هم من العرب الفلسطينيين.
وبما أنّ المحاولات الصهيونية في هذا المجال فشلت فشلاً ذريعاً، فقد اتخذ صنّاع القرار في تل أبيب قراراً جوهرياً بتحويل التلفزيون اللافظ بالعربية إلى قناة فضائية، لكي يتمكن المشاهد العربي في الدول العربية من التقاط البث، وهنا تكمن الخطورة في الأمر، لأنّ هذا التلفزيون، أو الفضائية، يعمل وفق أوامر مباشرة من الشاباك الإسرائيلي، ويقوم بنشر الرواية الإسرائيلية، الكاذبة بطبيعة الحال، وقد ينجح هذا التلفزيون بتمرير رسالته إلى المواطنين العرب في المناطق المحتلة منذ عدوان يونيو/حزيران 1967، وأيضاً إلى سكان الدول العربية، وبالتالي هناك حاجة ماسة إلى محاربة هذه الفضائية بكل الوسائل ومنع التقطاها في الدول العربية، أو التحذير من خبث هذه الفضائية، لأنّ غير ذلك، قد يؤدي إلى أن تنطلي أكاذيب هذه الفضائية على الناطقين بالضاد
أي أنّ الحرب الإعلامية بيننا وبين الصهاينة لا تقتصر فقط على الإعلام الغربي، بل على الإعلام الإسرائيلي المستعرب، والذي لا يقل خطورة عن الإعلام الغربي، الذي تبنى وما زال متبنياً الرواية الإسرائيلية الكاذبة، وهو الإعلام الذي أشبعنا دروساً في الديمقراطية ومحاضرات عن الرأي والرأي الأخر، وهنا نرى أنّ تل أبيب وواشنطن تعملان بتنسيقٍ تامٍ من أجل تكميم الأفواه العربية والإسلامية التي ما زالت تقول نعم للمقاومة، لا لجدار العزل العنصري، ولا للجدار الفولاذي الذي تشيده مصر بدعمٍ من إسرائيل وأميركا.
من خلال متابعتنا للإعلام الإسرائيلي باللغة العبرية نصل إلى نتيجة مؤلمة للغاية: الصحافة العبرية هي ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب، وتقوم بالتكشير عن أنيابها في زمن حروب إسرائيل، بحيث يتحول الصحافي إلى جندي يخفي المعلومات وينشر الأخبار التي تصب في صالح ما يُسمى بالإجماع القومي الصهيوني، ويتحول الرقيب العسكري، الذي يعمل بأوامر من جهاز الأمن العام (الشاباك)، إلى رئيس رؤساء التحرير، حيث يُسرب المعلومات التي تحلو له وتخدم أجندته والصحافة العبرية "المتمردة" تتحول بين ليلة وضحاها إلى صحافة بلاط أو صحافة متطوعة.
وفي هذا السياق نصل إلى النتيجة بأنّ هناك تقاطع مصالح واضحا بين الإعلام العبري وبين السياسة الإسرائيلية الرسمية، القائمة على العنصرية وعلى نفي الأخر.
من هنا فإنّ عملية غسيل الدماغ التي يقوم بها الإعلام العبري ضد الفلسطينيين يتماشى مع سياسة حكومة الدولة العبرية، التي تعد العدة لتحضير التربة الخصبة لتمرير المزيد من القوانين العنصرية ضدّ فلسطيني مناطق الـ48، وهذا أخطر ما يكون، لأنّه في ظل انعدام الرأي الأخر، فإنّ الرأي السائد هو رأي الحكومة العنصرية، وهذا الأمر على المدى البعيد والقريب على حدٍ سواء، سيتأجج في ظل عدم وجود إستراتيجية عربية لمقاومة هذا التحريض السافر، من هنا فهناك حاجة ماسة إلى بلورة إستراتيجية عربية لدرء هذا الخطر المحدق والبحث عن وسائل علمية وعملية لمحاربة هذه الظاهرة، التي حوّلت الجلاد إلى ضحية، وحوّلت الضحية إلى جلاد.
تنتابني مشاعر الاشمئزاز إلى حد الشعور بالتقيؤ، في كل مرة أضطر من منطلق "مكره أخاك لا بطل" أن أتابع نشرات الأخبار والبرامج الهادفة للتحريض على العرب، ولكن على الإعلام العربي في الداخل الفلسطيني وفي العالم العربي أن يؤدي دوراً ريادياً في بناء المجتمع الفلسطيني والعربي لا سيما وأنّ الإعلام الإسرائيلي على مختلف مشاربه ينتهج مبدأ الإبادة الرمزية مع كل ما يتعلق بتغطية الفلسطيني بالداخل والعربي في الوطن العربي، حيث يظهر الأمر جليًا بسياسات التغريب والإقصاء والتجريم، وبالتالي يجب العمل على التخطيط مع المجتمع لبناء إستراتيجية إعلامية تعمل على تحديد معالم جديدة للحيز العام العربي الذي يغذّي بدوره الخطاب الإعلامي.
ونعتقد أنّه من الأهمية بمكان التشديد على أهمية العمل المهني مع الصحافيين والصحافيات من خلال أطر عملية وبمشاركة كل قطاعات الرأي والرأي الحر في العالم العربي، من أجل تطوير ثقافة إعلامية مبنية على أخلاقيات التفاهم والاحترام المتبادل والدفاع عن حقوقنا المشروعة من أجل الارتقاء بالمجتمع وتحقيق الحقوق الإعلامية للمجتمع العربي برمته.
ونقوله بفم مليء: وزراء الإعلام العرب هم آخر من يحق لهم أنّ يتكلموا عن حرية التعبير، لأنّ إعلامهم مجير لصالح الحاكم والفساد، لا أقل ولا أكثر
المصر الجزيرة نت المعرفة