صدر أخيراً عن معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب تقرير يرصد، بعيون جنرالات متقاعدين وخبراء عاملين، المسار الذي قطعه حزب الله في إعادة بناء المقاومة اللبنانية وتعظيم قدراتها.
التقرير ليس مجرد عمل أكاديمي. انه وثيقة متعددة الأغراض، لكنها تصبّ في غاية رئيسية: حماية أمن إسرائيل وترسيخ وجودها في الحاضر والمستقبل.
من الأغراض المرتجاة ثلاثة مرجّحة: أولها، رصد ردود فعل العدو (حزب الله) إزاء التقرير بغية تدقيق وتصويب المعلومات المتوافرة لدى إسرائيل عن تنظيمات المقاومة ومكامن قوتها وطريقة انتشارها ومنهجية قتالها. ثانيها، تضليل العدو بغية حمله على الاعتقاد بأن مخططات إسرائيل العدوانية مبنية على محاور فهمها لقدراته (حزب الله) وخططه القتالية بحسب ما هي مفترضة في التقرير، في حين ان مخططاتها تكون مبنية على واقعات ومعلومات واستهدافات مغايرة. ثالثها، إعداد الجمهور الإسرائيلي لتقبّل ما هو أسوأ مما تعرّض له وعانى منه في الحرب العدوانية الثانية على لبنان سنة 2006م.
لنأخذ التقرير كما هو، ولنحاول تحليل مفاصله الرئيسية بغية تقويم افتراضاته وما يمكن ان يقدمه من فائدة لأغراض إسرائيل الثلاثة المنوه بها آنفا.
يفترض واضعو التقرير، اولاً، أن حزب الله باشر، «بعد وقت قصير من وقف اطلاق النار، بإجراء نقد ذاتي معمق لطريقة ادارته للحرب في هذا الإطار، نفذ الحزب سلسلة من التحقيقات الخاصة، وألّف لجنة تحقيق داخلية حققت في جملة من الأنشطة» شملت منظومات الأسلحة التي استخدمها خلال الحرب، من صواريخ اطلقت على العمق الإسرائيلي، الى الصواريخ المضادة للدروع، الى منظومة الدفاع الجوي التي أفلحت في اسقاط مروحية (هليكوبتر) إسرائيلية واخفقت في اسقاط مقاتلات جوية، الى نظريته القتالية واستخدامه المجالات التحت أرضية للحؤول دون اصابة العديد من عناصره المقاتلة، وصولا الى عمليات إرسال تعزيزات وتحريكها من قرية الى اخرى ومن شمالي نهر الليطاني الى جنوبيه. فرضية النقد الذاتي هذه واقعة موقعها الصحيح إذ برهنت نتائج الجولات القتالية التي خاضها حزب الله منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي لغاية الوقت الحاضر على حصول تطوير متصاعد لأداء المقاومة، وهو تطوير ما كان ليتحقق لولا حرص حزب الله على مراجعة تجاربه القتالية بغية استخلاص الدروس والعِبَر والاستفادة منها لتطوير نفسه ومنظوماته القتالية بمختلف افرعها. هذه المنهجية الفاعلة والراقية في العمل حملت واضعي التقرير على الإقرار بحقيقة ساطعة مفادها «ان حزب الله لم يُصب بالعارض المعروف للجيوش التي تميل الى الاستعداد للحرب الماضية، بل يستعد كما هو مطلوب للحرب المقبلة». هذا الإقرار هو رسالة مزدوجة الى القطاع العسكري كما الى القطاع المدني الإسرائيليين من اجل اليقظة وبذل مزيد من الجهود لمواجهة عدو متصاعد القدرة.
يفترض واضعو التقرير، ثانياً، ان حزب الله اطلق سباق تسلحٍ مكثفاً ليعيد ملء مخازن الاسلحة التي انخفض منسوبها خلال الحرب الاخيرة، بل انه زاد كميتها ورفع من مستوى نوعيتها. فقد ارتفع عدد صواريخه من 12000 في صيف 2006 الى 42000 في صيف 2009م. الى ذلك، امتدت مديات صواريخه على نحوٍ اصبح معها معظم سكان إسرائيل يقعدون في متناولها، وان مخزونه من الصواريخ يتضمن طرازات متطورة من صواريخ «زلزال» و«فاتح» 110 الذي يبلغ مداه 250 الى 300 كيلومتر ويحمل رأسا تفجيريا زنته نحو نصف طن. كما يشير التقرير الى احتمال «ان يكون السوريون والايرانيون قد هرّبوا عبر الحدود منظومات دفاع جوي من طراز SA-8 وSA-15 التي تُنصّب على آليات مزودة برادار قوي قادر على متابعة عدة أهداف بالتزامن، وعلى اعتراض طائرات على ارتفاعات كبيرة بواسطة صواريخ موجهة». من الممكن ان تكون جميع هذه الافتراضات صحيحة إذ من المنطقي ان يزيد حزب الله من عدد صواريخه وان يرفع من مستوى نوعيتها، إلاّ ان تقدير عدد الصواريخ ومدياتها يبقى سراً. غير ان ما ليس سراً هو غرض إسرائيل من وراء نشر هذه الافتراضات. في هذا المجال يمكن، من جانبنا، التقدم بفرضيتين: الاولى ان يكون غرض إسرائيل تحذير سكانها من أخطار صواريخ حزب الله القادرة على اصابتها في الحد الأقصى لعمقها السكاني ما يستوجب الاستعداد لمواجهة هذه الاخطار بكل الوسائل المتاحة من جهة او تبرير الامتناع، من جهة اخرى، عن شن الحرب على حزب الله ولبنان بدعوى تفادي قيامه بردٍ ثأري في العمق الإسرائيلي حيث الكثافة السكانية. الفرضية الثانية، ان تركيز التقرير على امكانية قيام حزب الله بضرب التجمعات السكانية الإسرائيلية هو لغاية مزدوجة: استثارة الرأي العام الغربي للضغط على حكومات أميركا وأوروبا من اجل ادانة حزب الله وتطويقه تمهيداً لضربه، ولتبرير قيام إسرائيل بضرب التجمعات السكنية الفلسطينية واللبنانية بدعوى ان منصات صواريخ حزب الله مخبأة داخلها.
يفترض واضعو التقرير، ثالثاً، ان ايران وسوريا هما المصدر الرئيسي لتزويد حزب الله بمختلف انواع الاسلحة، ولاسيما الصاروخية منها. بل ان التقرير يشير بوضوح الى ان سوريا «تحولت، بحسب شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الى مخزن الاسلحة الخاص بحزب الله». فالحدود السورية- اللبنانية تمتد 360 كيلومترا من الشمال الى الجنوب، بينها 100 كيلومتر ممتدة على الحدود الشرقية فيما الباقي على الاتجاه الشرقي في منطقة البقاع. ويفترض واضعو التقرير ان «على امتداد هذه المسافة، هناك عشرات المعابر غير الشرعية تستخدم في تهريب الاسلحة من دون اي معوّقات الى جميع ارجاء لبنان». هذا الافتراض يدخل في صميم الاتهام الإسرائيلي الثابت لايران وسوريا بأنهما وراء تزويد حزب الله بالاسلحة وتوفير مختلف انواع التدريبات القتالية والفنية الرفيعة لمقاتليه، الامر الذي يصبّ في خانة التحريض المبرمج ضدهما لدى مختلف اوساط الرأي العام العالمي. وقد يشكّل أيضا دعوة إلى الولايات المتحدة لمعاداتهما وربما لضربهما ايضاً، كما لإتخاذ هذا الإتهام السافر ذريعةً مستساغة امام الرأي العام الإسرائيلي والاميركي لرفض إحياء المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا بوساطة تركيا. بل لعله ذريعة مستساغة ايضا لتوجيه ضربة عسكرية قوية لسوريا يكون من شأنها حمل مجلس الامن الدولي على محاولة تسوية النزاع العسكري بينهما بقرار يقضي بنشر قوة دولية على طول الحدود السورية - اللبنانية بقصد منع تهريب الاسلحة الى حزب الله. غير ان محاولةً كهذه غير مضمونة النجاح لسببين: الاول، لأن سوريا قادرة، ولاسيما اذا انخرطت معها المقاومة اللبنانية في الحرب، على ردع إسرائيل وإحباط هجمتها ودحرها. الثاني، لأن ما من قوة عسكرية مهما بلغ تعدادها قادرة على إغلاق حدود برية بطول 360 كيلومتراً، فضلاً عن ساحل على البحر المتوسط يزيد طوله عن 250 كيلومترا.
في ضوء هذه الافتراضات الثلاثة الرئيسة وغيرها يصل واضعو التقرير الى خلاصة في مستهل عرض ما يعتقدون انه النظرية القتالية لحزب الله. هذه الخلاصة، في رأيي، ليست فرضية متوقعة بل نتيجة مرجّحة للحرب العدوانية الإسرائيلية الثالثة على لبنان اذا ما وقعت. يقول واضعو التقرير «إنطلاقـاً من الفرضية الأساس لحزب الله بأنه سيواجه في الحرب المقبلة هجوماً برياً واسعـاً، ومن التوجهـات التي اتسمت بها عملية بناء قوته في السنوات الثلاث الاخيرة، يمكن استقراء مبادىء النظرية القتالية الخاصة بالحزب. يبدو ان الحزب، عموماً عمل على تغيير شكل ساحة المعركة. فبدلا من القتال في مناطق مفتوحـة، نقل الحزب مركز الثقل الى داخل القرى، اي انه سيكون علـى الجيش الإسرائيلـي اذا ما اراد تصفية منصـات الاطلاق ومواقع تجمع المقاتلين ان يخوض القتال في مناطق مبنية في عشرات النقاط بالتوازي. إن السيطرة على مساحة حضرية في مواجهة عدو يتمترس وراء سكان مدنيين تتطلب بالتأكيد عدداً كبيراً من القوات يمكن ان تكون عرضة لقتال ينطلق من الانفاق ولمحاولات إختطافٍ وعبوات وصواريـخ مضادة للدروع. في هذه الحالة، يولّد الحزب لنفسه أهدافـاً تتجسد فـي جنـود الجيش الإسرائيلي، وانطلاقاً من وعيـه لحساسية المجتمع الإسرائيلي للضحايا، سيكون بإمكانه ان يتوقع أن نجاحه في استيفاء ثمن باهظ سيؤدي الى اهتزاز الثقة في القيادتين العسكرية والسياسية وسط الجمهور الإسرائيلي والى تشويش مواصلة العملية البرية. إن توسيع صفـوف المقاتليـن وتسليحهم بصواريخ متطورة مضادة للدروع ونشرهم شمالي نهر الليطاني يخدم هذا الهدف ايضا. فمن جهة، سيكون على الجيش الإسرائيلي توسيع خطوط القتال والتحرك في مناطق تقع تحت سيطرة الحزب والتعرض لنيران دقيقة موجهة من بعد، ومن جهة اخرى سيتمكـن مقاتلو الحزب مـــن صد ارتالا لمدرعات بواسطة جدران نارية صاروخية ومن مطاردة قوات الجيش واستدراجها اكثر نحو العمق اللبناني وخوض قتال بعيـد من الحدود، مع كل ما يعنيه هذا الامر. الى ذلك، فإن انتشاراً مكثفـا للقوات شمالي الليطاني من شأنه ان يمنع إلتفافا على جنوبيه عبر حركة فكّي كماشة يقوم بها الجيش الإسرائيلي، اي ان فرص صمود قـوات النسق الامامي للحزب ستتعزز، فيما سيكـون الإلتفاف عليه من الشمال منطوياً على مخاطر بالنسبة الى الجيش الإسرائيلـي، وهو يصبّ في مصلحـة الحزب».
إني، بقدر ما املك من معرفة وقدرة على التحليل والإستنتاج، اعتقد ان ما توصل اليه واضعو التقرير في الخلاصة المثبتة اعلاه، صحيح ومعقول وقابل للتحقق. كما اعتقد ان المقصود بهذه الخلاصة توصيل رسالة توصية الى القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ولاسيما الى اصحاب القلوب المتعصبة والعقول المتهورة بين اركانها، بأن الحرب العدوانية الثالثة (المحتملة) على لبنان لن تكون سهلة، بل الارجح ان تكون صعبة وباهظة الثمن وغير مضمونة النتيجة، وانه سيتأتّى عنها «تغيير وجه المنطقة»، كما وعد قائد المقاومة السيد حسن نصرالله.
ألم تكن وعود السيد نصرالله صادقة دائما؟
المصدر موقع المقاومة الاسلامية اللبنانية (حزب الله)