إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن مدارسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في عهدها المكي أو فيما تلا ذلك من العهد المدني بتفاصيله الكبيرة، هي من الإيمان ومن مقتضيات محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلاقاً من هذا فسنعرض إن شاء الله تعالى ثلاث قضايا:
أولاها: أهمية السيرة النبوية.
وثانيها: مصادرها.
وثالثها: المنهج الصحيح لدراسة هذه السيرة.
فأما القسم الأول وهو المتعلق بأهمية هذه السيرة، فلاشك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، وهو أفضلهم عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن هذه السيرة تعنينا نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم عناية خاصة؛ فهو رسولنا ونحن أمته، وهو خاتم الرسل، ولا ننتظر رسولاً بعده أبداً، وعيسى عليه الصلاة والسلام أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل في آخر الزمان، ولكنه إذا نزل يكون متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاكماً بالقرآن، وقاتلاً للخنزير، وكاسراً للصليب، ورافعاً للجزية، فلا يقبل من اليهود والنصارى إلا الإسلام على شريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أو السيف، ثم إنه يدفن بعد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
الأمور التي تبرز من خلالها أهمية السيرة النبوية:
وأهمية سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تبرز من خلال عدة أمور:
منها: عناية السلف رحمهم الله تعالى بهذه السيرة النبوية الكريمة: ولو أن الإنسان تدبر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون هذا النبي الكريم لوجد أنهم كانوا يحبونه محبة عظيمة جداً، حتى إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعلموا أنهم قد فقدوه، وأنه انقطع الوحي بينهم وبين السماء، أصيبوا بصدمة عظيمة ذهلت لها عقولهم، حتى إن أحد الصحابة يعبر عن ذلك ويقول: "فلما أن دفنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكرت لنا قلوبنا؛ فما هي والله بالتي نعرف".
وصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنقلون في الشوارع والطرقات في المدينة، وكأنهم طير بلله المطر ينتقل من زاوية إلى زاوية؛ من شدة ما لقوا من الحزن لفقد هذا النبي الكريم والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هذه عناية هؤلاء الصحابة فعناية سلفنا الصالح من التابعين ومن بعدهم كانت على مثل ذلك، فحرصوا على متابعته، وحرصوا على مدارسة سيرته صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن أحد أئمة التابعين -وهو الإمام الزهري الذي يُعتبر أحد مَن دوّن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يقول عن علم المغازي: إنه علم الآخرة والدنيا.
وقد روي عن إسماعيل بن محمد بن سعد قال: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ويعدَّها علينا، ويقول: "يا بني، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها"، يربي رحمه الله تعالى عليها أولاده.
وعن علي بن الحسين قال: "كنا نعلم مغازي نبي الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن".
وهذا منهم رحمهم الله تعالى دليل على حرصهم على أن يربوا أولادهم على معرفة هذه السيرة النبوية الكريمة، وعلى معرفة تفاصيلها؛ حتى تمتلئ قلوبهم محبة لهذا النبي العظيم وعظمة لهذا الدين وهذا الإسلام، ولئلا تمتلئ قلوبهم بمحبة الخرافات والأساطير وقصص الممثلين والممثلات وغيرهم مما لا فائدة منه أبداً، فيجب أن تملأ قلوب الصغار وتملأ قلوب الأولاد بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وسيرته وتفاصيلها، وإن قلباً امتلأ محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماً بسيرته وبسراياه ومغازيه وأموره كلها، لقلب قَمِنٌ أن يكون قلباً تواباً أواباً رجاعاً إلى ربه تبارك وتعالى عاملاً بالإسلام داعياً إليه خادماً له معتزاً به.
وما أحرانا في عصرنا الحاضر أن نغرس في قلوب أولادنا هذه السيرة النبوية الكريمة بدل أن يغرسها وتغرسها وسائل الإعلام بقصص الكافرين والكافرات والفاسقين والفاسقات، نسأل الله السلامة والعافية.
ولقد كتب ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) مقدمة عظيمة عن أهمية سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن منزلة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ومما قاله بعد مقدمة طويلة:
"ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر؛ فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فُرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء؟!".
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف هديه وسيرته وشأنه وما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشريعته وحزبه.
وعلى هذا فإن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما هي سيرة خاصة، ونحن محتاجون إليها إذا أردنا أن نكون من المؤمنين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والعجيب، أن كثيراً ممن يهتم بتاريخنا الإسلامي تجده يركز على قضايا مادية، كالزخرفة والفنون والبنايات وغيرها، ويجعلها هي رمز الحضارة الإسلامية، ويؤلف في ذلك المؤلفات الطويلة، ثم يغفل عن إظهار وإشهار سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها من عظمة، وما فيها من جهاد، وما فيها من دروس وعبر، فلاشك أن هذه السيرة النبوية مليئة ومليئة للمسلمين بأن يكون هذا النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لهم؛ فكلٌ يقتدي به عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن الذي يريد أن يهتدي بهدى الله يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا يقتدي به المجاهد الذي يقود الجهاد في سبيل الله، والداعية الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، والزوج الذي يريد أن يربي أسرته على المنهج الصحيح، والرجل الذي يريد أن يعلم أصحابه وأولاده ما يريدونه من العلم، وهكذا. فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتميز بشمولها التام، وبأنها سيرة متكاملة شاملة لجميع مناحي الحياة، قد نجد عند الناس في تواريخهم من برز في القتال، أو من برز في العلم، لكن أن نجد من هو قدوة يجب اتباعه ومن برز في جميع الأمور؛ فلا نجد ذلك إلا في هذا النبي الحبيب الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
أهمية دراسة سيرة الخلفاء الراشدين:
وأود بهذه المناسبة أن أشير في ختام هذه المقدمة القصيرة عن أهمية سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أن من المهم مدارسة سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بهم فقال:
«اقتدوا باللذين من بعدي؛ من أصحابي، أبي بكر وعمر» [صححه الألباني]، وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» [صححه الألباني].
والأمر الثاني -وهو المهم جداً- أن الخلافة الراشدة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أول تطبيق عملي للإسلام بدون الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى لا يأتي قائل ويقول: أين نحن من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهو رسول الله مؤيد بالوحي ومؤيد بالمعجزات.. إلى آخره؟ فنقول له: نعم، هذه سيرة واجب اتباعها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بذل الأسباب، وكان بشراً عليه الصلاة والسلام، لكنه كان نبياً، أما خلافة الخلفاء الراشدين فهي تطبيق عملي قريب متكامل لما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نهتم بدراسة تاريخهم وسيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن نمحصها.
وننتقل بعد ذلك إلى الفقرة الثانية وهي المتعلقة بمصادر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القرآن الكريم مصدر من مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ومصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً:
وأولها: القرآن الكريم، والقرآن الكريم هو كتاب الله ووحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً حسب الأحوال والحوادث فإن هذا الكتاب الكريم كان تطبيقاً عملياً لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بدءاً بدعوته إلى أن انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، ومن ثمَّ فإن القرآن الكريم يتميز عن غيره من المصادر بعدة ميزات:
أولاها: أنه كلام الله، فمدارسته عبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف وميم حرف» [رواه الترمذي وصححه الألباني]، فكون الإنسان يقرأ القرآن ويتدارسه هو عبادة أولاً.
الميزة الثانية: أن في القرآن العظيم إشارات تفصيلية لبعض الأحداث في السيرة النبوية لا يمكن أن نجدها في كتب السيرة الأخرى، ومن تدبر كلام الله سبحانه وتعالى سيجد ذلك واضحاً بيناً، فمن قرأ سورة التوبة وكيف قص الله علينا ما جرى في غزوة تبوك، أو قرأ سورة آل عمران وما جرى في غزوة أحد، أو قرأ سورة الأحزاب وما جرى في غزوة الأحزاب؛ سيجد في هذه الآيات القرآنية من التفاصيل ما لا يجده في كتب السيرة النبوية.
والميزة الثالثة للقرآن وكونه مصدراً مهماً لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام: أن القرآن فيه ربط عجيب بين سير الحدث وقصة الحدث وربطه بالعقيدة والإيمان والقضاء والقدر، بمعنى: أن كتب السيرة تسرد عليك الأحداث سرداً، لكن إذا قرأتها من القرآن العظيم تجده يعقب عليها بتعقيبات تزن هذه الأحداث وتقومها، وتربطها بالملك العلي جل جلاله، وما دام الأمر كذلك فأنت حينما تقرأ الآيات المتعلقة ببعض أحداث سيرته صلى الله عليه وسلم، تجد ربطها بالإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وبما كتبه الله وقدره وبعلامات الإيمان، وتجد فضح المنافقين وأحوالهم وأوصافهم.. إلى آخره.
الميزة الرابعة: أن السيرة أحياناً تكون مرتبطة بزمان أو مكان أو حدث معين، ولكن في القرآن العظيم تتحول هذه الحادثة من قصة معينة إلى درس كبير ومنهج متكامل يتعدى ظروف الزمان والمكان، ويتعدى ظروف الحدث، ومن ثمَّ يأتي في هذه الآيات الكريمات تحليل لهذا الحدث وتعقيب عليه؛ بحيث يتحول إلى درس يقرؤه الإنسان ولا يمله إلى يوم القيامة، وهذه ميزة القرآن العظيم أنه لا يمله الإنسان، ولا يخلق من كثرة الرد أبداً.
الميزة الخامسة: أن هناك أحداثاً جاءت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن جاء تفصيلها في القرآن أكثر مما جاء في السيرة، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش وزواجها قبله من مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله ذكر ذلك في قصة الأحزاب بما لا نجد تفاصيله وتعقيباته في غيره من كتب السيرة.
الميزة السادسة: أن كتاب الله سبحانه وتعالى وهو يذكر هذه الأحداث يركز على خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيركز على عموم رسالته، وعلى أن مهمة الرسول هي البلاغ، كما أنه يركز على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر وليس ملكاً، كما أنه يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وهكذا. وينبغي أن نعلم أن مدارسة هذا القرآن العظيم وتتبع السيرة النبوية من خلاله لابد لها من أمور، فلابد من مراجع، ومن أهم هذه المراجع كتب التفسير، ومن أهم كتب التفسير تفسير الطبري وتفسير ابن كثير رحمهما الله تعالى، ثم يأتي بعد ذلك كتب أسباب النزول وغيرها. وأود أن أشير بهذه المناسبة إلى أن أحد الكتاب حاول أن يكتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم فقط، وهو الأستاذ محمد عزت؛ وذلك في كتابه (سيرة الرسول) التي كتبها في مجلدين، فأراد أن يقتصر على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام من القرآن الكريم، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يُكتفى بالقرآن العظيم؛ لأن كثيراً من التفصيلات لابد من الرجوع فيها إلى كتب الحديث النبوي وإلى كتب السيرة؛ ليتبين المراد منها، لكنها محاولة جيدة منه.
المصدر الثاني: هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: وينبغي أن نعلم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي عني المسلمون بتدوينه عناية تامة، فيه من تفاصيل أحداث السيرة الأمر العجيب، ولدينا ما صح من الحديث النبوي، أقصد ما أُلف بقصد جمع الصحيح، فهناك من ألف كتابه وجعله صحيحاً، كـالبخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وفيهما من أحداث السيرة النبوية الشيء الكثير والكثير جداً، وعليك أن تقرأه بثقة واطمئنان؛ لأنه ثابت صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجد في البخاري وفي مسلم أبواباً في فضائل الصحابة، وتجد أبواباً في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجد أبواباً في المغازي، وتجد أبواباً في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، وجهاده للكفار، وهكذا، ففيها من التفصيلات ما قد لا تجده في غيرها من المصادر الأخرى، إضافة إلى كتب السنة الأخرى كبقية السنن الأربع: الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهكذا مسند الإمام أحمد وكتب المعاجم، كمعاجم الطبراني الصغير والكبير والأوسط، ومسند أبي يعلى الموصلي، وغيرها من دواوين السنة الكبرى، والأجزاء الحديثية الصغرى، فهذه كلها فيها الكثير والكثير مما لو جمع لكان سيرة متكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه الكتب الحديثية منها ما هو مرتب على الأبواب فيسهل أحياناً الوصول إليها، كما في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي؛ حيث يسهل وصول الإنسان إلى الأبواب التي يريدها وتتعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك كتب أخرى ليست كذلك، بل تحتاج إلى العلماء، وتحتاج إلى الفهارس؛ حتى نستفيد منها، كمسند الإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد جعله على مسانيد الصحابة، ومن ثمَّ فإن الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذا المسند لابد أن يتتبع المسند من أوله إلى آخره، ويستعين -مثلاً- بالفتح الرباني وإن كان لم يذكر الأحاديث المكررة، لكن الفتح الرباني حول المسند إلى الأبواب. وكذلك أيضا المعجم الكبير للطبراني أو المعجم الأوسط أو مسند أبي يعلى الموصلي أو غيرها، فهذه كلها مسانيد جاءت على ترجمة الصحابة، وأحياناً على ترجمة شيوخ أولئك المحدثين، فالوصول إلى أحداث السيرة فيها يحتاج إلى فهرسة، ويحتاج إلى جهود العلماء في ذلك. وينبغي أن نعلم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما صح منه -كما في البخاري و مسلم مثلاً- فيه من البيان والتوضيح لبعض الأحداث المشكلة الشيء الكثير، وسأذكر بعض الأمثلة المتعلقة بالعهد المدني: مما كان في العهد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة بني المصطلق التي تُسمى غزوة المريسيع، فتجد -مثلاً- في سيرة ابن إسحاق أنه يذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ثم قاتلهم، لكن تجد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم داهمهم وهم غارون، فبحث العلماء هذه القضية: هل لابد قبل القتال من الدعوة إلى الإسلام؟ وكيف نجمع بين حديث البخاري وما قاله ابن إسحاق في سيرته؟ فهنا نجد أن البخاري رحمه الله تعالى أوثق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً هجم على بني المصطلق وهم غارّون، حيث هجم عليهم هجوماً صاعقاً، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، وجرى في تلك الغزوة ما جرى، لكن يبقى السؤال: هل معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم وفيه: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال)، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام»، يعني: ادعهم قبل ذلك، فهل معنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري - داهمهم ولم يدعهم؟ الجواب: لا، بل الراجح أنه داهمهم، لكن كان بنو المصطلق قد بلغتهم الدعوة، وإذا كان الأمر كذلك يزول الإشكال في هذه المسألة، وهكذا إذا حلل الإنسان يجد في كتب الحديث النبوي من الترجيحات الشيء الكثير والكثير جداً.
القسم الثالث: كتب الشمائل المحمدية التي تشرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وصفاته الخلقية والخلقية عليه الصلاة والسلام: ومن أهم المراجع في هذا الباب: كتاب الترمذي صاحب الجامع الصحيح، فله كتاب اسمه (الشمائل المحمدية)، وهذا الكتاب طبع، وقد اختصره وحكم على أحاديثه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله فمختصره موجود، وفيه شرح لشمائل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الكتب التي طبعت في الشمائل ولكن إلى الآن لم تحقق: كتاب (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه) لـأبي الشيخ الأصبهاني المتوفى سنة (369هـ)، لكن هذا الكتاب حتى الآن -على حد علمي- لم يحقق تحقيقاً متكاملاً.
والكتاب الثالث -وهو كتاب مشهور عند كثير من الناس- هو: كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض المتوفى سنة (544هـ)، وهذا الكتاب خرج أحاديثه السيوطي رحمه الله تعالى في كتاب مطبوع اسمه (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا)، وهو مطبوع، ولكن ينبغي أن نعلم أن كتاب (الشفا) للقاضي عياض وإن كان أجاد فيه في بعض المواضع إلا أنه رحمه الله قد وقع في الخطأ في بعضها، ومن ثمَّ نجد للصوفية عناية كبيرة بهذا الكتاب، فالكتاب فيه أشياء جيدة، لكن من الملاحظات عليه أنه تكلم -مثلاً- عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والسفر إليه، ورجح جواز ذلك، وهذا كما هو معلوم مخالف لعقيدة السلف رحمهم الله تعالى.
الأمر الثاني: أنه لما ذكر أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم صار يقرنها بأسماء الله، فيقول أن الله من أسمائه: الأول والآخر، ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أول من تنشق عنه الأرض... إلخ. وأقول: إن في مثل هذه المسائل نوع مبالغة لا تنبغي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بألا نرفعه فوق منزلته.
ومن الكتب الجيدة الممتازة جداً: (الشمائل) للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وهذا الكتاب جزء من البداية والنهاية، وقد طبع مستقلاً، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان عن سيرة ابن كثير رحمه الله تعالى.
الرابع :كتب دلائل النبوة التي فيها شرح لدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته: لأن النبي صلى الله عليه وسلم له معجزة هي القرآن الكريم، وله عليه الصلاة والسلام معجزات أخرى كثيرة جداً كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرونها كبيرة، وقد عني العلماء بذكر هذه الدلائل وتفاصيلها؛ لأنها دالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وفي أثناء هذه الدلائل شرح كبير لكثير من أحداث السيرة النبوية. ومن كتب الدلائل -وهو أهمها-: كتاب دلائل النبوة للفريابي وقد طبع أخيراً، وهو كتاب صغير، لكنه جيد. وهناك كتاب آخر مطبوع اسمه: (دلائل النبوة) لـأبي نعيم الأصبهاني. وهناك أيضاً كتاب ثالث طبع أخيراً واسمه (دلائل النبوة) للبيهقي، لكن كتاب البيهقي هذا كتاب كبير يقع في عدة مجلدات، وفيه بعض الأحاديث الضعيفة، فينبغي لمن اطلع عليه أن يميز صحيحها من ضعيفها. وللسيوطي رحمه الله تعالى كتاب اسمه: (الخصائص الكبرى) وقد طبع هذا الكتاب قديماً، ثم طبع أخيراً بتعليقات للشيخ محمد خليل الهراس رحمه الله تعالى.
القسم الخامس: كتب السيرة النبوية: وبدء تدوين السيرة النبوية ليس هذا مناسبة شرحه، وربما أنها سبقت في مناسبة أخرى، لكن نعرض لبعض كتب السير المشهورة، ومن أهمها: سيرة ابن إسحاق المتوفى سنة (150 أو سنة 151هـ)، وسيرة ابن إسحاق رحمه الله تعالى كانت مسطورة، ثم هذبها ابن هشام ، وعرفت عند الناس جميعاً باسم: سيرة ابن هشام، وفيها اعتماد كامل على سيرة ابن إسحاق ، مع بعض الحذف والاختصار في بعض المواضع.
وسيرة ابن إسحاق الأصل وجد منها قطعة تقع في مجلد، طبعت أخيراً بتحقيق محمد حميد الله، ثم طبعت طبعة أخرى بتحقيق سهيل بكار. وسيرة ابن هشام هذه هي السيرة النبوية المشهورة بين الناس، والتي عمل العلماء لها شروحاً، وممن شرح غريبها الخشني، وشرحه مطبوع، وممن شرحها الإمام السهيلي واسم شرحه (الروض الأنف)، وقد طبع قديماً في أربعة أجزاء، ثم طبع أخيراً قبل سنوات في سبعة مجلدات بتحقيق عبد الرحمن الوكيل طباعة جيدة، وقد حرص السهيلي على بعض التعليقات وبعض التعقيبات، وشرح بعض الغوامض.
وينبغي أن يعلم أن سيرة ابن هشام هذه هي سيرة ينبغي التثبت من أحداثها تصحيحاً وتضعيفاً، فليس ما فيها كله صحيح، وإنما يجب مقارنتها بغيرها من السير وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيها بعض الروايات الضعيفة، وخاصة ما يتعلق بعهد الجاهلية أو بحياة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى وما يتعلق بولادته ونحوها، لكن ابن إسحاق ثقة في باب المغازي، فإذا لم نجد ما يعارضه من الأحاديث الصحيحة فإننا نعتمد ما قاله ابن إسحاق رحمه الله تعالى. وهناك جزء من السيرة لـأبي إسحاق الفزاري المتوفى سنة (186هـ)، وأبو إسحاق الفزاري روى له الجماعة، فهو أحد الثقات، وقد طبع أيضاً جزء من كتابه هذا، وهو كتاب جيد لم يقتصر فيه على السيرة النبوية، وإنما ذكر فيها ما يتعلق بالأمور المتعلقة بمعاملة الناس في أثناء الجهاد والغنائم، ففيه تفصيلات وأحكام أخرى. ومن المغازي المشهورة مغازي الواقدي المتوفى سنة (207هـ) ، لكن الواقدي هذا متروك ، ولما كان ضعيفاً نجد المستشرقين عنوا عناية كبيرة بسيرة الواقدي ومغازيه، وتركوا سيرة ابن إسحاق رحمه الله تعالى، وكان الأولى هو العكس: تقديم سيرة ابن إسحاق على مغازي الواقدي.
ومن كتب السيرة أيضاً: ما كتبه محمد بن سعد كاتب الواقدي المتوفى سنة (230هـ) -وهو ثقة- مقدمة لكتابه (الطبقات الكبرى)، ففيه تفصيلات بالأسانيد لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرجع مهم. ومن كتب السيرة أيضاً: (الدرر في اختصار المغازي والسير) لـابن عبد البر القرطبي الإمام المشهور المتوفى سنة (463هـ) وكتابه مطبوع، وقد تابع فيه ابن إسحاق ، لكنه رحمه الله تعالى زاد على ذلك بروايات من الحديث النبوي من صحيح البخاري ومن سنن أبي داود ومن غيرها من الكتب. وهناك كتب أخرى فيها عناية بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلة، ومنها: (شرح المواهب اللدنية) للقسطلاني، وهو كتاب كبير جداً حاوٍ لكثير من المسائل المتعلقة بشمائل الرسول وسيرته ومغازيه وصفاته وأحواله، ففيه تفصيل كبير، ويتميز أن فيه تحقيقات حديثية وترجيحات، فتجده إذا ذكر الحديث يرجع إلى كتاب البخاري أو إلى كتاب مسلم ، ويذكر الروايات، ويناقشها، ويرجح بينها، فهو مرجع مهم في هذا. ومن كتب السير المشهورة: كتاب (السيرة الحملية) وهي مطبوعة، لكن يُحذر مافيها من روايات ضعيفة؛ لأن فيها روايات إسرائيلية كثيرة. ومن السير أيضاً: كتاب (سبل الهدى والرشاد) لـمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي المتوفي سنة (942هـ)، وقد طبع من الكتاب ستة أجزاء وهو كتاب كبير، لكنه كتاب شامل، وفيه ما يجب أن يحذر منه من بعض القضايا العقدية، ومن بعض الروايات الضعيفة.
السادس : الكتب التي ألفت عن الصحابة، وترجمت لهم: ففيها تفاصيل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والكتب المؤلفة عن الصحابة كثيرة، منها (معرفة الصحابة) لـأبي نعيم الأصبهاني . ومنها (أسد الغابة) لـعز الدين ابن الأثير، ومنها (الإصابة) لـابن حجر العسقلاني، رحمهم الله تعالى، وغيرها كتب كثيرة، وهي مشهورة، وفيها تفاصيل حياة الصحابة المتعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المصادر لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي يستفاد منها: كتب التاريخ.
وكتب التاريخ نوعان:
النوع الأول: الكتب التي دونت لتاريخ الحرمين الشريفين، مثل (تاريخ مكة) للفاكهي، ومثل (تاريخ مكة) للأزرقي، ومثل (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين)، ومثل (خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى) للسمهودي، فهذه الكتب وإن كانت كتباً تاريخية هامة إلا أن من يريد أن يبحث في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيجد منها ما يفيده، على أن يمحص هذه الروايات ويدرسها. القسم الثاني من كتب التاريخ هي: كتب التاريخ العامة، مثل (تاريخ الطبري)؛ فإن تاريخ الطبري هذا فيه من التفاصيل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، لكنه رحمه الله كان يسوقها بأسانيدها، ومن أسندك فقد أحالك، فعلى الإنسان ألا يأخذ ما يرد في تاريخ الطبري على أنه قضية مسلمة، وإنما عليه أن يدرس أسانيدها، ويمحصها، ويقارن بينها وبين الروايات الأخرى، ومثلها كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري؛ فإن في مقدمة هذا الكتاب ترجمة وافية للرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: كتاب (البداية والنهاية) لـابن كثير؛ فإنه أسند سيرة مطولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد طبعت مستقلة باسم (السيرة النبوية لـابن كثير)، ويُعتبر هذا الكتاب من أهم كتب السيرة؛ لأن ابن كثير رحمه الله تعالى كان مهتماً بالحديث، وكان مهتماً بمقارنة أحداث السيرة التي يذكرها ابن إسحاق أو غيره بما في صحيح البخاري و مسلم و الترمذي وغيرها من الروايات، فكتابه هذا مفيد جداً، ونقول: إنه من أفضل كتب السيرة التي يجب أن يُعتنى بها.
وهناك أيضاً كتاب آخر وهو: كتاب (التاريخ) للذهبي رحمه الله تعالى، فإنه أفرد مجلدين كبيرين أحدهما للسيرة النبوية، والثاني لمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الذهبي إماماً محدثاً، ومن ثمَّ فإنه رحمه الله تعالى حرص حرصاً شديداً على مقارنة هذه السيرة بغيرها والحكم على كثير من رواياتها، فهو كتاب مهم جداً، وقد طبع ما يتعلق بالسيرة وما يتعلق بعهد الخلفاء الراشدين من هذا الكتاب، كما طبعت منه أجزاء أخرى فيما بعد ذلك. وأيضاً: كتب التاريخ المختلفة، ولا نريد أن نتتبعها.
كتب يجب الحذر منها:
ونحن نتدارس مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن أن نحذر من الكتب التي يسمونها: كتب الأدب، وكتب دواوين الشعر، ونحوها، ككتاب (الأغاني) لـأبي الفرج الأصبهاني أو (العقد الفريد) أو غيرها من الكتب؛ فإن هذه فيها تفاصيل بأحداث السير وبأحداث جرت بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه التفاصيل يجب ألا تؤخذ قضية مسلمة، وأن نعلم أن فيها كثيراً من الدس والكذب على أولئك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. فلا يجوز لمسلم أن يجعل مثل هذه الكتب مصدراً له، لا في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ولا في تاريخ الصحابة، ولا في تاريخ عهود الخلفاء الراشدين وما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم. ......
أقسام الدراسات المعاصرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:
أما الكتابات المعاصرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نعلم أن هذه الكتابات قسمان: منها قسم تأثر فيه أصحابه بدراسات المستشرقين والمبشرين. وينبغي أن أشير في هذه المناسبة إلى أن المستشرقين والمبشرين ألفوا كتباً كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من هذه الكتب وبعضها قد ترجم إلى العربية، وكثير منها مملوء حقداً وبغضاً وسباً وشتماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فينبغي أن نحذر من هذه الدراسات الاستشراقية، وتبعهم على ذلك بعض أذنابهم ممن ينسبون إلى المسلمين، وكان من الدراسات التي تأثرت بهم ما كتبه طه حسين في كتابه (على هامش السيرة)، فهذا الكتاب مملوء بالخرافات، ولا ينبغي أن يعتمد عليه أبداً. وكذلك أيضاً هناك كتب أخرى وإن كانت أقل خطورة من هذا الكتاب إلا أنها تأثرت بتلك الدراسات الاستشراقية وبالغزو الاستعماري.
ومنها ما كتبه محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد)، أو في كتابه الآخر (في منزل الوحي)، فالكتابان وإن كانا جميلين بديعين إلا أنه قلد فيهما مناهج المستشرقين والمبشرين، فمثلاً: أراد أن يجعل من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه واحداً من البشر العاديين، ومن ثم سمى كتابه (حياة محمد)، يعني: يريد ألا يجعل هناك معجزة إلا القرآن، فيبعد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يسميه هؤلاء مخالفاً للعقل من المعجزات ومن المغيبات، ويريد أن يعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً كما يقول: ليتناسق مع مقتضيات الحياة ومع بذل الأسباب البشرية، فجاء عرضه في سيرته بعيداً عن تلك القضايا المهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي من معجزاته ودلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
ومثله ما كتبه العقاد في كتابه (عبقرية محمد)، وعنوانه يدل على مقصده منه! فمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُقاس بغيره من العظماء، وإنما يجب أن تختص دراسته بكونه نبياً ورسولاً من عند الله تبارك وتعالى.
ثم إنه بدأت دراسات جادة وجيدة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولنقد كتب السيرة، ومن تلك الدراسات الجيدة ما كتبه عدد من الباحثين في جامعة أم القرى وفي الجامعة الإسلامية، فإن هؤلاء كتبوا عدة رسائل درسوا فيها بعض المسائل المتعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم دارسة حديثية نقدية ممتازة، فمثلاً: درسوا بيعة العقبة وأحداثها، ودرسوا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحداثها، ودرسوا غزوة بدر، ومن هذه الدراسات ما يتعلق بغزوة بني المصطلق، وما يتعلق منها بصلح الحديبية، وما يتعلق منها بغزوة تبوك، وقد طبعت أكثر هذه الدراسات، وهي دراسات مهمة جداً.
وكان للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله تعالى فضل في ذلك بعد الله تعالى؛ فإنه أول من اقترح هذه الدراسات، وأشرف على عدد من هذه البحوث، وتوفي رحمه الله تعالى منذ زمن، ثم تابع الإشراف على هذه الرسائل الأستاذ الشيخ الدكتور أكرم العمري ، وهو موجود الآن في المدينة، وقد حرص الدكتور أكرم العمري على متابعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى متابعة هذه الرسائل لإخراج سيرة جيدة متكاملة مبنية على الدراسة الحديثية المؤصلة. ومن الدراسات التي اهتمت بالسيرة النبوية ما كتبه الأستاذ محمد سرور زين العابدين (دراسات في السيرة النبوية)، فإن هذا الكتاب قد طبع، ودرس فيه كثيراً من مناهج السيرة النبوية، ونقد نقداً ممتازاً كثيراً من مناهج المستشرقين وأذنابهم من المستغربين، ودراسته هذه مطبوعة. ومنها أيضاً ما كتبه أكرم العمري الذي أشرت إليه قبل قليل؛ فإنه له دراسات ممتازة جداً، حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الدراسات الممتازة له ما كتبه بعنوان: (المجتمع المدني في عهد النبوة)، وهو جزءان: جزء يتعلق بخصائص هذا العهد وتنظيماته الأولى، والجزء الثاني يتعلق بالجهاد ضد المشركين، وقد طبعت هذين الجزءين الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفيه دراسة ممتازة جداً وتأصيل جيد لدراسة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام. وهناك دراسات كثيرة ومتعددة اختلفت مناهجها وسبلها، وتعدادها يطول بنا.
أهم الكتب والمصادر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن قيل في ختام المصادر: فما أهم المصادر لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأود أن أشير إلى أن من أهم كتب السيرة الكتب التالية:
الكتاب الأول: (تاريخ الإسلام) للذهبي، ففيه المقدمة التي أشرت إليها قبل قليل، وهي قسمان:
قسم في السيرة النبوية، وقسم في المغازي.
الكتاب الثاني: (السيرة النبوية) لـابن كثير.
الكتاب الثالث: (زاد المعاد) لـابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا كتاب عجيب جداً، فكتاب (زاد المعاد) الذي ألفه ابن القيم رحمه الله تعالى وهو في طريقه إلى الحج فيه من التفاصيل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته وفقهها ما يعتبر من الكتب الفريدة في بابه، فينبغي ألا يخلو بيت من هذا الكتاب بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب التفسير.
وابن القيم رحمه الله تعالى فيما يتعلق بالسيرة النبوية أعقب كل حدث بذكر الدروس المستفادة منه، وهذا الكتاب مهم جداً، وقد طبع محققاً في خمسة مجلدات، وسادسها هو الفهارس، فاحرصوا على اقتناء هذا الكتاب والقراءة فيه؛ فإن فيه فوائد جمة، وإن فيه من التحقيقات الكثيرة الكبيرة ما يحتاج إليه المسلم في حياته.
وهذا الكلام كله بعد سيرة ابن إسحاق؛ لأن ابن إسحاق له من التفاصيل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعتبر من جاء بعده تلميذاً له يستفيد منه.
ومن هذه الكتب أيضاً: (فتح الباري) لـابن حجر العسقلاني، وأود أن أشير إلى أن هذا الكتاب فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مهم جداً؛ لأنه لما شرح الأحاديث المتعلقة بالسيرة سواء في الأبواب التي بوبها البخاري رحمه الله فيما يتعلق بالمغازي والسير والجهاد ونحوها وفضائل الصحابة ونحوها والمناقب ونحوها، أو ما يتعلق بالأحاديث التي بوب لها البخاري في باب الأحكام لكنها متعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تميز ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه (فتح الباري) بشرح الأحاديث وتمحيصها، ومقارنة الروايات ومدارستها، وفي هذا ما يحتاج إليه أي إنسان يريد أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتفاصيلها، فالكتاب مليء ومليء بالفوائد العلمية الكبيرة، ومنه ما يتعلق بسيرة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ومن الكتب الجميلة جداً والمهمة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب (مختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ووالده محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له كتاب مختصر في السيرة؛ ركز فيه على ما يتعلق بالجاهلية وعادات المشركين؛ ليبين كيف كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حرباً على الشرك وعادات الجاهلية وأحوالها، لكن ولده عبد الله له مختصر في مجلد كبير، اقتصر فيه على ما ورد عن ابن إسحاق رحمه الله تعالى، إلا أنه أضاف إليه تعليقات وتحقيقات أخذها من ابن القيم ومن غيره.. فهذه أهم مصادر السيرة.
القسم الثالث:
منهج دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:
ودراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تقوم على عدة أسس وصفات، ومن أهمها:
أولاً: ينبغي أن تكون الدراسة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم منطلقة من عزة الإسلام وأحقيته في الحكم والسيادة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غيره. وهذه قضية مهمة جداً.
فمن يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يبنيها على هذا الأساس؛ إذ ليست سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرة رجل من الناس، وإنما يبنيها على أن هذا الإسلام لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، وعلى أن هذا الإسلام لا يمكن أن تتم معرفته إلا بمدارسة سيرة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وينبغي البعد عن الروح الانهزامية في تحرير وتحليل قضايا السيرة النبوية، فجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرسه الإنسان على أنه دين أمر الله سبحانه وتعالى به، لا على أن المسلمين لم يقصدوا به كذا، ولم يقصدوا منه كذا، وإنما كان دفاعاً، ولم ينتشر الإسلام بالسيف، ولم ولم... إلى آخر العبارات التي جاءتنا من سموم المستشرقين والمبشرين.
نعم قال الله تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: 256]، لكن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة: 123]، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة: 29]، فالجهاد ليس فيه روح انهزامية، ونحن ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الأحكام الشرعية التي تبين كيف أن هذا نبي من عند الله، وأن الله سبحانه وتعالى أمره بأن يبلغ دينه فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ومن الأمثلة على الروح الانهزامية لبعض من يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعله بعضهم حينما مر على قصة بني قريظة حينما خانوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، وقصتهم طويلة وهي مفصلة في كتب السيرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هزم الأحزاب رجع إلى بني قريظة، وكانت له مع جبريل قصة حينما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم السلاح فدخل عليه جبريل فقال: "يا محمد! ألقيت السلاح؟"، قال: "نعم". قال: "فإن الملائكة لم تلق بعد السلاح". قال: "وماذا؟"، قال: "اذهب إلى بني قريظة"، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته وذهب إلى بني قريظة وحاصرهم حتى استسلموا، فلما استسلموا أرادوا أن تكون حالهم كحال بني النضير الذين وهبهم النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن أبي ابن سلول ؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وافق على أن يُؤخذ منهم السلاح، وتُسلم لهم نفوسهم وأموالهم، فأرادوا ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم في أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وقبلوا هم ذلك، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا سعد بن معاذ، وكان قد أصيب بجرح، فلما أقبل سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزلوه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد آن لـسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: احكم في بني قريظة يا سعد"، أي: احكم في هؤلاء الخونة، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه: "أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم وأموالهم". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"، أي: أن حكمك هو حكم الله الجبار جل جلاله، وأتي بهؤلاء الملاعين، وكانوا قرابة السبعمائة رجل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.