عظمة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم
تسأل وأسأل ويسأل الناس في كل زمان، وقديماً تساءلت قريش، ومن عاصرها من القبائل والأقوام، من أين جاء هذا الرجل العظيم والسيّد الكريم، وأعني به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بما جاء به من بليغ القول ورفيع الدلالة، وسامي الأخلاق وعالي الشمائل والصفات، يفوق بشجاعته الصناديد والأبطال، ويبذ برأيه الثاقب وحسن تدبُّره الأمور أعظم الساسة وأكبر الحكماء، ويبدو في علمه كأنه البحر الزاخر لا يقف عند حد وليس له انتهاء، ويسمو بحلمه ورفقه ولطيف معاملته فوق كل ذي مكانة ومقام، فليس يستطيع أن يدانيه بشرٌ ولا أن يدرك نهاية لسموِّه وكماله إنسان.
رجل نشأ في أرض مقفرة لا أثر فيها لمعهد من معاهد العلم، وفي جو لا مدارس فيه ولا علماء، فيفوق في علمه كل عالم، ويسمو بخُلُقه العالي على كل ذي خُلُق فاضل، ويقارع بالحجة الدامغة كل معارض ومعاند، فتتحطَّم أمام حججه كل مناقشة لها صلة بباطل، وتزهق المعارضة، وينبلج الحق، ويلمع ويبدو كالصبح السافر والكوكب الساطع في الظلام المدلهم الحالك. فمن الذي بثَّ في نفسه ما بث من سمو، ومن أين له ذلك المقام؟.
رجل قام يدعو إلى الحق، فتقف في وجهه المعارضات، وتُحاك المؤامرات وتحتك الآراء، ويقوم جناة للشر بالشر، وتتَّحد الأقوام وتتحزَّب الأحزاب، وتتضافر جهود أهل الضلال، ويحملون لواء الباطل، ولهم جيوش ولهم رماح وسيوف ونبال، ويتعاون الجمع على رد الحق وإشعال نار الحرب، ثم تضطرم ولها أوار، ويقف هذا الرجل العظيم في مبنى القيادة يدير المعركة بكل حزم وحكمة وأناة، ويحمى الوطيس فينزل بنفسه إلى الميدان، يُقارع الأبطال ويزلزل الأقدام، ويمسك الحاسدون بعضهم بأيدي بعض يبغون قتله وأذاه، وإن هي إلاَّ جولات حتى يندحر القوم ويهزم الجمع ويولُّون الدُبُر، ويخرج هذا السيد العظيم من المعركة ظافراً منتصراً، يقطر وجهه بشراً ونوراً ويلمع سروراً وحبوراً، وكيف لا ينير وجهه ويلمع، وكيف لا يشرق ويسطع، وقد ركَّز ركائز الحق في أم القرى، وأقام لها مناراً يهدي التائه ويرشد الضال ويقيل العثار على كر العصور والأزمان. فمن أين له هذه الشجاعة الرائعة، ومن أين له هذه الحكمة البالغة، وكيف حصل على هذا القلب الثابت والجأش الرابط والكمال الذي لا يدانيه فيه مدان، ولا يدرك شأوه إنسان؟.
تعجب وأعجب ويعجب الساسة المفكِّرون ويتطَّلع العظماء من الرجال، يرمقون ذلك المقام الرفيع الذي حلَّ به هذا الإنسان العظيم، ويتساءل أبطال الأبطال وتهفو القلوب إلى الجواب، ثم تنحل المشكلة، ويبطل العجب ويتبيَّن السبب، بما نزَّله الله تعالى على عبده من آيات بيِّنات، تضمَّنها القرآن الكريم ونطق بها الذكر الحكيم، فجاءت مبيِّنة سر هذا السمو الإنساني البليغ، لدى هذا الرجل العظيم في قوله تعالى:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، منَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
وهكذا فسورة الناس تبيِّن لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلجوئه وبعياذه العالي بربِّ الناس، شرُف وسما، وصار أكرم مخلوق وأرفع إنسان.
وتفيد كلمة ( قل ) تعريفاً وبياناً فهي تقول:
اذكر لعبادي أيها الرسول معرِّفاً ومبيِّناً ذلك المنبع العالي الذي منه نهلت، والمورد الذي عنه صدرت، والمعهد الذي منه تعلَّمت، والجهة التي إليها أويت، فسموت وشرفت وتعرَّفت، والملجأ والموئل الذي إليه لجأت وبه عذت، فأصبحت بشراً لا كغيرك من البشر، إنساناً سامياً فوق كل مخلوق وإنسان، والطريق سالكة مُمهَّدة لكل راغب، والسبيل ميسَّرة لكلِّ سارٍ وطالب، وفضل الله تعالى واسع عميم، يؤتي كلاًّ على حسب سعيه، والله ذو الفضل العظيم.
فيا أيها الناس:
إن شئتم علما غزيراً وحلماً كثيراً، وخُلُقاً سامياً ورأياً ثاقباً بصيراً، وعقلاً راجحاً كبيراً، وإن أردتم شجاعة وقلباً ثابتاً لا تزلزله الخطوب، وجأشاً رابطاً لا تفل من عزماته الحوادث والمؤامرات والحروب، وإن رمتم حياة هنيئة طيبة وراحة نفسية دائمة وشرباً من كأس الحب الإلهي وتمتُّعاً بسعادة أبدية خالدة، فعوذوا بربِّ الناس الذي به عذت، والتجؤوا إلى من إليه التجأت.
هذا البحث من ثنايا علوم العلامة الكبير محمد أمين شيخو
....