السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
خيرية الأمة مرهونة بقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ،قال تعالى:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ](آل عمران: 110).
كان هنا ليست ناقصة في الآية بل تامة المعنى بمعنى انتم خير أمة، أو هي فعل ماضي ناقص يعبر به عن الوجود في الماضي ولكنه لا يدل على الانقطاع أي بمعنى كنتم ولا زلتم خير أمة مثل قوله:
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف : 45] و كقوله تعالى:
[إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ]( النساء: 23 )"
أي كان ولا يزال.
فالمعروف: أصل المعروف كل ما كان معروفا فعله جميلا مستحسناً غير مستقبح في أهل الإيمان بالله.
والمنكر: قال الطبري: أصل المنكر ما أنكره الله، و رأه قبيحاً فعله.
ولذلك سميت معصية الله منكرا، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ويستعظمون ركوبها.
وهذا ما صرّح به مجاهد رحمه الله، فيما أخرجه ابن جرير عنه قال: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط:
أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله .
ويغني عن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله و هم كذلك " .
أخرجه مسلم و البخاري.
أي بلا تقييد بزمان معين، فأمة الإسلام هي خير الناس للناس ما التزمت بأوصاف هذه الخيرية.
وعن أنس رضي الله عنه قال رسوا الله صلى الله عليه وسلم {أمتي كالمطر ، لا يدرى ، الخير في أوله أم في آخره }أخرجه الإمام أحمد في المسند.
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ] (البقرة: 143 )أي: خيارا.
وبعد أن قررت الآية الكريمة خيرية هذه الأمة، فصلت بعد ذلك أسبابها فقالت:
[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]وهي جملة منصوبة على الحال، أي [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] حال كونكم [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ].
والتعبير بـ "صيغةُ المستقبلِ للدِلالة على الاستمرار".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لو شاء الله لقال: "أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال: "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس،
يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر .
وأخرج ابن جرير بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة سيئة فقرأ هذه الآية: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]،ثم قال:
يا أيها الناس، من سره أن يكون من
تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها.
وأخرج الترمذي وغيره عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]
قَالَ: "أنتمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"
فالحديث يوجه الخطاب إلى جميع الأمة ولا يخص الصحابة رضي الله عنهم وحدهم.
وأخرج الإمام أحمد: بسنده عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه،يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ".
فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال :
" نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ،
وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ" هو عام في الأمة جميعها، ولكن بالنظر إلى صفات هذه الخيرية وعللها، حتى يتم المعنى، فهي ليست خيرية مجانية، بل خيرية مدفوعة الثمن - إن جاز التعبير –وثمنها هنا هو القيام بشرائطها التي ذكرتها الآية الكريمة.
وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
وبيان علة تلك الخيرية ،هنا حكم الله تعالى
بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات ، يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات".
إن الآية الكريمة هنا تخبر عن ثلاث صفات إذا اجتمعت في الأفراد حصد المجتمع نتائجها، وإذا اعتنى بها المجتمع فاق أقرانه وعلاها، وهذه الصفات:
الأولى: الأمر بالمعروف أي بكل ما أمر الشرع به، فالشرع لا يأمر إلا بالمعروف، وفي امتثاله صلاح الفرد والجماعة.
وأولى ما يؤمر به هو الإيمان بالله فهو أعلا درجات المعروف ولذلك قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير:
"تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و "لا إله إلا الله"،هو أعظم المعروف".
والثانية: النهي عن المنكر، أي عن كل ما نهى عنه الشرع.
وأولى ما ينهى عنه هو الشرك بالله تعالى فهو رأس الإثم وذروة سنام المنكر قال ابن عباس رضي الله عنه عن الآية:
وتنهونهم عن المنكر، المنكر هو التكذيب، وهو أنكرُ المنكر.
والثالثة: الإيمان بالله، وهي جماع ذلك كله، وما مضى هو من لوازمها وفروعها، ولذا فلا اعتبار بالفروع إذا عدم الأصل.
والتعبير بالإيمان بالله هنا شامل لكل أركان الإيمان من الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر، وبكل ما يلزم الإيمان به ، لأن مرد ذلك كله إلى الإيمان بالله.
وبتحصيل هذه الصفات يتعدى الخير الفرد إلى المجتمع،ليتم النفع العام.
يقول السعدي في تفسيره:
يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة
أخرجت للناس .
وهذه الأمة ليس بعدها أمة فخيرتهم على أهل زمانهم وعلى جميع الأمم السابقة إذاً خيرتهم مطلقة.
بما يعود بالنفع على كل البشرية، فالحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس،
وجعل خيرتها متعلقة بمقدار نفعها للناس.
ومما يؤخذ من الآية من فوائد وأحكام:
قال السيوطي في الإكليل: استدل بالآية على أن هذه الأمة أفضل من غيرها، وعلى أن الصحابة أفضل الأمم لأنهم المخاطبون بها حال النزول، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لأن شرف الأمة بشرف نبيها.
وقال البيضاوي: استدل بهذه الآية على إن الاجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك.
ويؤخذ من الآية أيضا فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنهما أساس خيرية الأمة وأفضليتها على غيرها ومناط رفعتها، فإذا تخلت عنهما زال عنها هذا الوصف.
يقول القرطبي: في قوله تعالى: [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم،وكان ذلك سببا لهلاكهم.
ويؤخذ من الآية أيضا أن تأثير الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في الخيرية
هو مرهون بالإيمان بالله تعالى، فلو أن
أمة قامت بذلك بلا إيمان بالله، فإنه يفيدها
في الدنيا من استقرار للمجتمع، لكن لا اعتبار به في الخيرية الدينية التي تعنيها الآية الكريمة.
إلا أن هذا القيام غير دائم ولا يستمر لأن الباطل زائل.
حتى أن دولة الكفر ممكن أن تقوم بشرط أن تقوم على سيادة العدل بين الناس ونشر العلم و الاهتمام به.
لذلك يجب على الأمة القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقق الأمة مكانتها في الدنيا، ولتحظى بالفوز في الآخرة.
وهذا ما يصدقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وذلك أضعف الإيمان. صحيح مسلم.
فعلى المسلم أن يسعى إلى الخير جهده ولتغيير المنكرات لكن بالعلم، وبالإخلاص لله تعالى.